الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب: {وَكَانَ الله على كُلّ شيء مُّقْتَدِرًا} بتكوينه أولًا وتنميته وسطًا وإبطاله آخرًا وأحوال الدنيا أيضًا كذلك تظهر أولًا في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلًا قليلًا ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء؛ ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.والباء في قوله: {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} فيه وجوه.الأول: التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة.والثاني: فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفًا.وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه.{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}.لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجًا بديهيًا أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض.ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزنًا فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة، لاسيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة، لأن خيرات الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية، والله أعلم.والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالًا قيل إنها قولنا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف، فقال: روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات، فإذا قال والحمد لله صارت عشرين، فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين، فإذا قال والله أكبر صارت أربعين.قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهًا عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهًا عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة.والقول الثاني: أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس.والقول الثالث: أنها الطيب من القول كما قال تعالى: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} [الحج: 24].والقول الرابع: أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فإن لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملًا باطلًا وسعيًا ضائعًا.أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى: {خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيرًا وأفضل، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة. اهـ.
واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين:أحدهما: أن الله تعالى ضربه مثلًا للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها:الثاني: أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة.قوله عز وجل: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} لأن في المال جمالًا ونفعًا وفي {البنين} قوة ودفعًا فصارا زينة الحياة الدنيا.{والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابًا وخيرٌ أملًا} فيها أربعة تأويلات:أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.الثاني: أنها الأعمال الصالحة، قاله ابن زيد.الثالث: هي الكلام الطيب. وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا، وقاله عطية العوفي.الرابع: هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات». وفي {الصالحات} وجهان:أحدهما: أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح.الثاني: أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم فقال: مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقلت وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».{خير عند ربك ثوابًا} يعني في الآخرة، {وخير أملًا} يعني عند نفسك في الدنيا، ويكون معنى قوله: {وخيرٌ أملًا} يعني أصدق أملًا، لأن من الأمل كواذب وهذا أمل لا يكذب. اهـ.
|